من هو المفوض القضائي؟ وماهي وظيفة وجوده؟
كثير من الناس يسمعون باسم المفوض القضائي، او اسمه القديم العون القضائي ولا يعرفون ماهية وظيفته ولماذا تم إيجاده من الأساس ولا يكادون يعرفون ماهو ، ولا متى يحتاجون إليه، ولا ما الذي يميّزه عن باقي المتدخلين في المجال القانوني والقضائي المغربي .
وغالبًا لا يتعرّف المواطن على هذه المهنة إلا عندما يقف على بابه وهو بصدد اجراء قانوني ضده إنذار، تبليغ، معاينة، أو تنفيذ حكم. فيرتبط الاسم في الأذهان بالنزاع، بينما الحقيقة أوسع وأعمق من ذلك.
المفوض القضائي ليس محاميًا، ولا قاضيًا، ولا طرفًا في أي نزاع. ولا يمثل اي طرف من أطرافه بل هو محايد كل الحياد فهو مجرد
هو شخص أوكل له القانون مهمة ربط الواقع بالقانون، وتوثيق ما يقع في حياة الناس اليومية بشكل رسمي، محايد، ودقيق.
وجود المفوض القضائي في المنظومة القضائية لم يكن عبثًا، بل لحاجة واضحة انه عين القاضي خارج جدران المحكمة وقد يكون عين الحقيقة التي تتجلى في ما يحرره ويسجله حتى ان كان الامر خارج عتبات المحاكم :
قد تطرأ وقائع تحدث خارج قاعة المحكمة، في المنازل، والمحلات، والشوارع، والمقاولات، وهذه الوقائع لا تكفي فيها الأقوال ولا الشهادات العادية، بل تحتاج إلى إثبات قانوني يوثق به من طرف الجميع لا يستند لأحد ولا يدعم أحد بل هو الحقيقة التي يلتجأ اليه الكل حينما تتعارض الادعاءات وقد يكون عين الحقيقة على الأرض .
هنا يظهر دور المفوض القضائي.
فحين يُنجز المفوض القضائي محضرًا، فهو لا يعبّر عن رأيه، ولا يحكم، ولا يقيّم، بل يصف ما يراه كما هو، مثل عدسة الكاميرة التي تلتقط ما يجرى ويظهر امامها في زمان ومكان محددين، وفق ضوابط قانونية صارمة. ولهذا السبب، فإن محاضره تكون معتمدة أمام القضاء، وتُبنى عليها أحكام وقرارات القضاة والادارات والاطراف الاخرى .
المفوض القضائي يُلجأ إليه أحيانًا قبل نشوء أي نزاع، كوسيلة احتياط او كدليل يحتفظ به للضرورة ولحماية الحق الدي قد يسلب او ليس له ضمانات تدعمه و لتفادي الخلاف أو حماية الحق منذ البداية، مثل توجيه إنذار، أو معاينة وضعية قائمة يُخشى تغييرها أو إنكارها لاحقًا.
ويُـلجأ إليه أحيانًا أثناء النزاع، لإنجاز تبليغات أو إجراءات تأمر بها المحكمة حتى تبني قراراتها واحكامها وفق القانون ووفق منطق العدالة دون ان يبث في الدعوى الا بعد التوصل او رفضه من طرف المدعى عليه الدي كون في وضعية لا يعذر بعدها او ينكر عدم علمه بالدعوى .
ويُـلجأ إليه كذلك بعد صدور الأحكام، لأن الحكم، مهما كان، لا يصبح واقعًا إلا إذا تم تبليغه وتنفيذه وفق القانون.
لكن الأهم أن نفهم أن المفوض القضائي لا يعمل ضد أحد، ولا لصالح أحد، بل يعمل لصالح الحقيقة والقانون وهو محايد بطبيعته وحكم عمله لايمثل احد ولا ينوب عن اي طرف ويمارسه مهامه باستقلالية تامة وحيادية مهنية يفرضها القانون عليه والوازع ال.
هو شاهد مهني محايد، دوره أن ينقل ما وقع على أرض الواقع إلى ملف قانوني يمكن للقاضي أن يبني عليه قراره.
في الحياة اليومية، قد يكون تدخل المفوض القضائي سببًا في:
ولهذا، فالمفوض القضائي ليس مجرد منفّذ لإجراءات، بل هو جزء أساسي من ضمان الأمن القانوني، واستقرار المعاملات، واحترام الحقوق.
حل مشكل دون الوصول إلى المحكمة
حفظ حق قبل ضياعه
أو وضع حد لنزاع قبل أن يتفاقم
فهم هذه المهنة، ومعرفة متى نلجأ إليها، هو في حد ذاته خطوة أولى لحماية النفس والحقوق، قبل أن تتحول المشاكل البسيطة إلى
أولًا: المفوض القضائي كما يعرّفه القانون
عندما يعرّف القانون المفوض القضائي بكونه مساعدًا للقضاء، فإن هذا الوصف لا يُقصد به مجرد تحديد إداري أو توصيف شكلي للمهنة، بل يعكس موقعًا جوهريًا داخل منظومة العدالة. فالقضاء، بطبيعته، لا يقتصر على ما يجري داخل قاعات المحاكم، ولا يقتصر عمله على إصدار الأحكام والقرارات، وإنما يحتاج إلى أدوات ووسائل تمكّنه من الإحاطة بما يقع خارجها، في الواقع اليومي للناس، حيث تنشأ الوقائع، وتحدث الأفعال، وتتغير الأوضاع، قبل أن تتحول إلى ملفات قضائية.
في هذا السياق، يأتي دور المفوض القضائي باعتباره الجهة التي أوكل لها القانون مهمة نقل الواقع إلى المجال القانوني في صورته الصحيحة، دون زيادة أو تحريف أو تأويل. فالمفوض القضائي لا يبتكر الوقائع، ولا يستنتج النتائج، ولا يقدّم تفسيرات، بل ينجز إجراءات رسمية دقيقة، تكون لها حجية قانونية، وتُعتمد أمام القضاء باعتبارها وسيلة إثبات منظمة بقواعد صارمة.
إسناد هذه المهمة إلى المفوض القضائي لم يكن اختيارًا اعتباطيًا، بل نتيجة وعي تشريعي بأن العدالة لا يمكن أن تُبنى فقط على الأقوال، ولا على الانطباعات، ولا على روايات الأطراف، وإنما تحتاج إلى توثيق محايد للوقائع كما هي. ولهذا فإن القانون يحيط عمل المفوض القضائي بإطار قانوني مضبوط، ويخضعه لرقابة السلطة القضائية، لأن كل إجراء ينجزه، سواء تعلق بتبليغ، أو معاينة، أو تنفيذ، قد تترتب عنه آثار قانونية مباشرة تمس حقوق الأفراد ومراكزهم القانونية.
ومن هذا المنطلق، فإن المفوض القضائي لا يُعد ممثلًا لأي طرف من أطراف النزاع، ولا يُنظر إليه كجهة تدافع عن مصالح شخص معين. فهو لا يدافع عن الطالب، ولا يعارض المطلوب، ولا يتبنى موقفًا لصالح أحد. وجوده في الإجراء ليس تعبيرًا عن خصومة، بل ضمانة لسلامة المسطرة. كما أنه لا يصدر أحكامًا، ولا يقرر من المخطئ أو المصيب، لأن هذه السلطة محفوظة للقضاء وحده، ولا يقدّم آراء أو تقييمات شخصية، لأن وظيفته تقتصر على الوصف والتبليغ والتنفيذ في حدود ما يحدده القانون.
وعندما يحرر المفوض القضائي محضرًا، فإنه لا يكتبه بأسلوب إنشائي أو تقديري، بل وفق شكلية قانونية تجعل منه وثيقة رسمية لها قيمة إثباتية خاصة. فهو يثبت المكان والزمان والوقائع والأشخاص كما وقف عليها فعليًا، دون أن يضيف إليها استنتاجًا أو حكمًا، ودون أن يحذف منها ما قد يكون جوهريًا. ولهذا السبب، فإن المحاضر التي ينجزها المفوض القضائي لا تُعامل كأقوال عادية، بل تُعد جزءًا من الملف القانوني الذي يعتمد عليه القاضي في تكوين قناعته.
ومن هنا يتضح أن اللجوء إلى المفوض القضائي لا يرتبط بشخصه، ولا بسمعته، ولا بموقع مكتبه، وإنما بطبيعة الإجراء المطلوب إنجازه. فمتى كان الإجراء يحتاج إلى صفة رسمية، وحجية قانونية، وحياد كامل، فإن القانون يحدد المفوض القضائي كجهة مختصة للقيام به. وبهذا المعنى، يكون المفوض القضائي حلقة وصل أساسية بين الواقع والقضاء، ووسيلة لضمان أن ما يُعرض على القاضي ليس مجرد رواية، بل واقعة موثقة وفق القانون.
ثانيًا: متى يلجأ المواطن إلى المفوض القضائي؟
غالبًا ما يعتقد المواطن أن اللجوء إلى المفوض القضائي لا يكون إلا عند وقوع نزاع كبير أو بعد صدور حكم قضائي، غير أن هذا التصور لا يعكس حقيقة الدور الذي أُنيط بهذه المهنة. فالواقع العملي، كما يؤكده القانون والممارسة اليومية، يبيّن أن المفوض القضائي يُلجأ إليه في مراحل متعددة من حياة الأشخاص والمعاملات، وليس فقط عند الوصول إلى لحظة الخصومة أو التنفيذ. فجوهر تدخل المفوض القضائي لا يرتبط بالنزاع في حد ذاته، وإنما بالحاجة إلى إجراء رسمي، محايد، موثق، تكون له قيمة قانونية معترف بها.
يلجأ المواطن إلى المفوض القضائي كلما وجد نفسه أمام واقعة أو وضعية يخشى إنكارها لاحقًا، أو يحتاج إلى إثباتها بشكل لا يقبل الجدل. ففي الحياة اليومية، تقع أفعال وتتغير أوضاع وقد تزول آثارها بسرعة، بينما تبقى آثارها القانونية قائمة. وهنا تظهر الحاجة إلى جهة قادرة على توثيق الواقع كما هو، في زمانه ومكانه، دون تأويل أو تحيز. فالمفوض القضائي ينتقل إلى الميدان، يعاين ما هو قائم، ويحرر محضرًا رسميًا يصف الوقائع بدقة، ليصبح هذا المحضر لاحقًا مرجعًا قانونيًا يُعتمد عليه عند الاقتضاء.
كما يلجأ المواطن إلى المفوض القضائي عندما يرغب في توجيه إنذار أو إعذار ذي طابع قانوني، سواء تعلق الأمر بالمطالبة بأداء التزام، أو التنبيه إلى إخلال تعاقدي، أو وضع حد لوضعية غير سليمة. فالإنذار الموجّه عن طريق المفوض القضائي لا يكتفي بإيصال الرسالة، بل يثبت مضمونها وتاريخها وطريقة تبليغها، وهو ما يمنحها وزنًا قانونيًا قد يكون كافيًا في كثير من الحالات لحل المشكل دون اللجوء إلى القضاء.
وأثناء سير القضايا أمام المحاكم، يصبح تدخل المفوض القضائي جزءًا لا يتجزأ من المسطرة القضائية. فالتبليغات، والاستدعاءات، والأوامر القضائية، لا تكتسب قيمتها إلا إذا أُنجزت وفق الشروط التي يحددها القانون، وهو ما يجعل المفوض القضائي الضامن لسلامة هذه الإجراءات. فالتبليغ ليس مجرد إجراء شكلي، بل هو أساس لاحترام حقوق الدفاع وضمان علم الأطراف بما يُتخذ في حقهم.
وبعد صدور الأحكام والقرارات القضائية، يلجأ المواطن إلى المفوض القضائي لأن الحكم، مهما كانت قوته، يظل نصًا مكتوبًا ما لم يُفعّل على أرض الواقع. فالمفوض القضائي هو من يتولى تبليغ الأحكام وتنفيذها وفق الضوابط القانونية، مع احترام حقوق جميع الأطراف، والرجوع إلى القضاء كلما ظهرت صعوبة في التنفيذ. وبهذا المعنى، فإن المفوض القضائي لا يفرض الحكم، ولا يتعسف في تنفيذه، بل يطبقه في حدود ما يأذن به القانون وتحت رقابة القضاء.
وإلى جانب هذه الحالات، يلجأ المواطن إلى المفوض القضائي حتى خارج أي نزاع قضائي، عندما يكون الهدف هو الوقاية لا الخصومة، والحماية لا المواجهة. فتوثيق الوقائع، وتأمين المعاملات، وتفادي النزاعات المستقبلية، كلها أسباب مشروعة للجوء إلى المفوض القضائي، لأن تدخله في الوقت المناسب قد يجنب الأطراف مساطر طويلة ومعقدة لاحقًا.
ومن خلال ذلك، يتضح أن اللجوء إلى المفوض القضائي ليس خطوة استثنائية ولا إجراءً عدائيًا، بل اختيار قانوني واعٍ، يُقدِم عليه المواطن كلما احتاج إلى إجراء رسمي يحفظ حقه، ويضبط الواقع، ويمنع الالتباس. فالمفوض القضائي، في نهاية المطاف، ليس رمزًا للنزاع، بل أداة لتنظيمه أو تفاديه، وضمان أن ما يقع في حياة الناس اليومية لا يضيع بين الأقوال، بل يُثبت في إطار القانون.
ثالثًا: ما الذي يميّز تدخل المفوض القضائي عن غيره؟
قد يتساءل القارئ، بعد معرفة من هو المفوض القضائي ومتى يُلجأ إليه، عمّا يميّز تدخله عن غيره من الوسائل المتداولة بين الناس لإثبات الوقائع أو تبليغ المواقف، كالتصوير، أو الشهود، أو الرسائل العادية، أو حتى المحاضر العرفية. هذا التساؤل مشروع، ويكشف في جوهره عن الفرق بين ما هو متداول في الحياة اليومية، وما هو معترف به قانونًا داخل منظومة العدالة.
إن ما يميّز تدخل المفوض القضائي أساسًا هو الصفة الرسمية والحياد المؤسسي. فالمفوض القضائي لا يتدخل بصفته شخصًا عاديًا، ولا باعتباره شاهدًا من طرف واحد، بل باعتباره مهنيًا مخولًا له قانونًا إنجاز إجراءات محددة وفق قواعد مضبوطة، وتحت رقابة القضاء. وهذه الصفة وحدها هي التي تمنح لما ينجزه قيمة قانونية خاصة، وتجعل من محاضره ووثائقه عناصر يُعتد بها أمام المحاكم والجهات الرسمية.
كما يتميّز تدخل المفوض القضائي بكونه تدخلًا محايدًا بطبيعته. فهو لا يستمد مشروعيته من رغبة أحد الأطراف، ولا من قوة موقفه، ولا من تعدد الشهود، بل من احترامه الصارم للقانون وللوقائع كما هي. وعندما يحرر المفوض القضائي محضرًا، فإنه لا ينتقي ما يخدم طرفًا دون آخر، ولا يضخم الوقائع، ولا يقلل من شأنها، بل يلتزم بنقل الصورة كاملة، بما فيها ما قد لا يكون في صالح الطالب نفسه. وهذا ما يمنح تدخله مصداقية خاصة، ويجعل منه مرجعًا موضوعيًا عند تعارض الروايات.
ومن أوجه التميّز كذلك أن تدخل المفوض القضائي يؤطّر الزمن والوقائع بدقة. فالوقائع في الحياة اليومية متحركة، وقد تتغير أو تزول آثارها في وقت قصير، لكن توثيقها في لحظة معينة، وبمكان محدد، يجعلها ثابتة في الزمن القانوني، حتى وإن تغيّر الواقع لاحقًا. وهذا الفرق الجوهري بين ما يُلتقط عابرًا، وما يُثبت رسميًا، هو ما يجعل تدخل المفوض القضائي حاسمًا في كثير من القضايا.
ثم إن تدخل المفوض القضائي لا يقتصر على التوثيق، بل يمتد إلى ضمان سلامة الإجراءات. فالتبليغ الذي ينجزه ليس مجرد إيصال ورقة، بل إجراء قانوني يحترم فيه الشكل والآجال والبيانات، ويترتب عنه علم قانوني مفترض لا يمكن التنصل منه بسهولة. وبذلك، فإن تدخل المفوض القضائي لا يحمي فقط حق طالب الإجراء، بل يحمي أيضًا حق الطرف الآخر في أن يكون على بينة مما يُتخذ في حقه.
ويُضاف إلى كل ذلك أن المفوض القضائي يتحمل مسؤولية قانونية ومهنية عن كل ما يحرره أو ينجزه. فمحاضره ليست مجرد أقوال، بل وثائق رسمية يُسأل عنها، وتخضع للمراقبة، ويمكن الطعن فيها وفق المساطر التي يحددها القانون. وهذه المسؤولية هي التي تفرض عليه الدقة، والتحفظ، والالتزام، وتجعل من تدخله ضمانة لا مجرد إجراء شكلي.
من خلال هذه العناصر مجتمعة، يتضح أن ما يميّز تدخل المفوض القضائي ليس فقط كونه إجراءً قانونيًا، بل كونه تدخلًا منظمًا، محايدًا، ومسؤولًا، يهدف إلى ضبط الواقع وتقديمه للقضاء في صورته الصحيحة. وبهذا المعنى، فإن المفوض القضائي لا ينافس وسائل الإثبات الأخرى، بل يشكل الإطار الذي يمنحها، أو يستبدلها عند الاقتضاء، الصفة التي تجعلها صالحة للاعتماد القانوني.
رابعًا: المفوض القضائي بين الصورة الشائعة والواقع الحقيقي للمهنة
تكوّنت لدى جزء كبير من المواطنين صورة نمطية عن المفوض القضائي، صورة تختزله في شخص يحمل أوراقًا، أو يطرق الأبواب، أو يرتبط حضوره بالإنذار والتنفيذ والمشاكل. وهذه الصورة، رغم أنها نابعة من تجارب واقعية عاشها البعض، تبقى ناقصة ولا تعكس حقيقة المهنة ولا الدور الذي تضطلع به داخل المجتمع. فغالبًا ما يُنظر إلى المفوض القضائي من زاوية الإجراء الذي يصل إلى المواطن، لا من زاوية الوظيفة التي يؤديها ولا السياق القانوني الذي يتحرك داخله.
في الواقع، لا يختار المفوض القضائي طبيعة الإجراء ولا توقيته، ولا يبتكر النزاع، ولا يخلق المشكل. هو يتدخل عندما يُطلب منه ذلك، إما من طرف القضاء أو من طرف أحد الأطراف، لتنفيذ إجراء يفرضه القانون أو تقتضيه المسطرة. حضوره في لحظة توتر أو نزاع لا يعني أنه سببها، بل يعني أن النزاع بلغ مرحلة تستوجب تدخل جهة محايدة لتوثيق الواقع أو تبليغ إجراء أو تنفيذ حكم صدر عن القضاء.
والواقع الحقيقي للمهنة يبيّن أن المفوض القضائي يعمل في فضاءات متعددة، كثير منها بعيد عن النزاع بالمعنى الضيق. فهو ينجز معاينات وقائية، ويوثق أوضاعًا قانونية، ويساهم في تأمين المعاملات، ويُستدعى أحيانًا لتفادي النزاع قبل وقوعه. غير أن هذه الأدوار الهادئة لا تظهر للعموم بنفس وضوح الإجراءات المرتبطة بالتنفيذ أو الإفراغ، مما يخلق اختلالًا في الصورة المتداولة عن المهنة.
كما أن المفوض القضائي، في ممارسته اليومية، يشتغل في ظروف إنسانية وميدانية معقدة، ويتعامل مع أشخاص في حالات نفسية متباينة، ويُطلب منه أن يظل محايدًا ومتزنًا مهما كان السياق. فهو مطالب بتطبيق القانون بدقة، وفي الوقت نفسه باحترام كرامة الأشخاص، وضبط النفس، والالتزام بحدود مهمته دون تجاوز أو تعسف. وهذه الموازنة الدقيقة بين النص القانوني والواقع الإنساني هي من أكثر الجوانب غير المرئية في المهنة.
ويُغفل كثيرون أن المفوض القضائي يخضع للمساءلة والمراقبة، وأن كل إجراء ينجزه وكل محضر يحرره يمكن أن يكون محل تدقيق ومراجعة. فهو ليس سلطة منفلتة، ولا فاعلًا خارج الرقابة، بل مهني يتحمل مسؤولية قانونية وأخلاقية عن عمله، وهو ما يفرض عليه قدرًا عاليًا من الانضباط والدقة.
من هنا، فإن إعادة النظر في الصورة الشائعة عن المفوض القضائي تصبح أمرًا ضروريًا لفهم المهنة على حقيقتها. فالمفوض القضائي ليس خصمًا للمواطن، ولا أداة ضغط، ولا مجرد منفذ لإجراءات قاسية، بل هو فاعل قانوني يؤدي وظيفة محددة، هدفها الأساسي هو ضمان أن ما يقع في الواقع يُنقل إلى المجال القانوني بشكل منظم وعادل. وفهم هذا الدور يساعد على التعامل مع المهنة بوعي أكبر، ويُخرجها من دائرة التصورات
الخاطئة إلى فضاءها الطبيعي كجزء أساسي من منظومة العدالة وخدمة القانون.
خامسًا: المفوض القضائي كضمانة لحماية الحقوق واستقرار المعاملات
إذا كان القضاء هو الجهة التي تفصل في النزاعات وتصدر الأحكام، فإن المفوض القضائي يضطلع بدور أساسي يسبق ذلك ويواكبه ويليه، يتمثل في ضمان أن الحقوق لا تضيع في مرحلة الإثبات أو الإجراء أو التنفيذ. فحماية الحقوق لا تتحقق فقط بوجود نصوص قانونية، بل تحتاج إلى آليات عملية تُفعّل هذه النصوص على أرض الواقع، وتمنع أن تتحول الحقوق إلى مجرد مطالب نظرية يصعب إثباتها أو تنفيذها.
في هذا الإطار، يشكل تدخل المفوض القضائي عنصرًا حاسمًا في استقرار المعاملات بين الأفراد والمؤسسات. فالمعاملات اليومية، سواء كانت مدنية أو تجارية أو مهنية، تقوم على الثقة، غير أن هذه الثقة تحتاج أحيانًا إلى ما يدعمها قانونيًا. وعندما يُنجز المفوض القضائي معاينة، أو يوجه إنذارًا، أو يحرر محضرًا، فإنه يضع حدًا للغموض، ويحدد المسؤوليات، ويمنع التلاعب بالوقائع أو إنكارها لاحقًا.
كما أن حضور المفوض القضائي في المساطر القضائية يساهم في تحقيق التوازن بين الأطراف. فالتبليغ الصحيح يضمن علم الجميع بما يُتخذ في حقهم، والتنفيذ المنظم يضمن احترام الحكم دون تعسف أو تجاوز. وبهذا المعنى، فإن المفوض القضائي لا يحمي حق طرف على حساب آخر، بل يحمي مبدأ سيادة القانون ذاته، ويضمن أن تسير الإجراءات في إطار واضح ومضبوط.
ولا يقتصر دور المفوض القضائي على معالجة النزاعات بعد وقوعها، بل يمتد إلى الوقاية منها. فكثير من الخلافات كان يمكن تفاديها لو تم توثيق الوقائع في وقتها، أو توجيه إنذار في مرحلة مبكرة، أو إثبات وضعية قائمة قبل أن تتعقد. ومن هنا، يصبح تدخل المفوض القضائي أداة استباقية تساهم في تقليص النزاعات، وتخفيف العبء عن المحاكم، وحماية العلاقات القانونية من الانهيار.
إن استقرار المعاملات لا يعني غياب الخلاف، بل يعني وجود آليات عادلة ومنظمة للتعامل معه عند ظهوره. والمفوض القضائي، بحكم موقعه المحايد ومسؤوليته القانونية، يشكل إحدى هذه الآليات الأساسية. فهو يضمن أن الواقع يُوثق كما هو، وأن الإجراءات تُنجز وفق القانون، وأن الحقوق تُصان بعيدًا عن الفوضى أو الاجتهاد الشخصي.
ومن خلال هذا الدور، يتبيّن أن المفوض القضائي ليس مجرد فاعل تقني في منظومة العدالة، بل ركيزة من ركائز الأمن القانوني. فحيثما وُجد توثيق محايد، وإجراء منظم، وتنفيذ مضبوط، وُجدت حماية للحقوق، واستقرار للمعاملات، وثقة في القانون باعتباره إطارًا عادلًا لتنظيم العلاقات بين الناس
سادسًا: ماذا يجب أن يعرفه المواطن قبل اللجوء إلى المفوض القضائي؟
قبل اللجوء إلى المفوض القضائي، من المهم أن يدرك المواطن أن هذه المهنة لا تتدخل ارتجالًا ولا بدافع الخصومة، بل بناءً على طلب محدد وإجراء مضبوط. فالمفوض القضائي لا “يتصرف” نيابة عن الشخص، ولا يبحث عن حلول مكانه، بل يقوم بإجراء قانوني واضح، تكون نتائجه مرتبطة بدقة الطلب وحدوده. ولهذا، فإن أول ما يجب أن يعرفه المواطن هو أن وضوح الهدف من اللجوء إلى المفوض القضائي شرط أساسي لفعالية تدخله.
فمثلًا، قد يتصل شخص بالمفوض القضائي طالبًا “إثبات أن الجار ألحق به ضررًا”. في الواقع، المفوض القضائي لا يثبت المسؤولية ولا يقرر الخطأ، بل يثبت ما هو قائم على أرض الواقع. فإذا انتقل إلى المكان وعاين تشققات في جدار، أو تسرب ماء، أو تغييرًا في وضعية معينة، فإنه يثبت وجود هذه الوقائع في تاريخ محدد، دون أن يقول من تسبب فيها. هذا التمييز البسيط، الذي قد لا يكون واضحًا للمواطن، هو ما يجعل محضر المفوض القضائي قويًا أمام القضاء، لأنه يلتزم بما يسمح به القانون ولا يتجاوزه.
ومثال آخر من الواقع العملي، يتعلق بالإنذارات. كثير من الناس يعتقدون أن توجيه رسالة هاتفية أو مراسلة عبر تطبيقات التواصل كافٍ للمطالبة بحق أو لإثبات الإشعار. غير أن التجربة تُظهر أن هذه الوسائل كثيرًا ما تُنكر أو يُطعن في حجيتها. وعندما يلجأ المواطن إلى المفوض القضائي لتوجيه إنذار، فإنه لا يهدف فقط إلى إخبار الطرف الآخر، بل إلى إثبات أن هذا الإخبار تم، ومتى تم، وبأي مضمون. وقد يحصل في حالات عديدة أن يتراجع الطرف الآخر عن موقفه بمجرد توصله بإنذار رسمي، دون الحاجة إلى رفع دعوى.
ومن الأمثلة الشائعة كذلك، حالات المعاينة الوقائية. فقد يطلب صاحب محل تجاري معاينة حالة محله قبل تسليمه، أو قد يطلب مالك عقار معاينة وضعية معينة قبل شروع جار في أشغال. في هذه الحالات، لا يكون هناك نزاع قائم، بل خوف مشروع من نزاع محتمل. تدخل المفوض القضائي هنا يكون بمثابة إجراء احتياطي يحفظ الذاكرة القانونية للواقعة، حتى إذا وقع خلاف لاحقًا، كان هناك مرجع محايد يُرجع إليه.
أما في مرحلة التبليغ، فكثيرًا ما يجهل المواطن أن التبليغ القانوني ليس مجرد إجراء شكلي. فقد يدّعي شخص أنه “لم يكن على علم” بدعوى أو حكم، في حين يثبت محضر التبليغ المنجز من طرف المفوض القضائي أن التبليغ تم وفق القانون. في هذه الحالة، لا يكون المفوض القضائي قد وقف ضد أحد، بل يكون قد ضمن احترام مبدأ أساسي هو علم الأطراف بالإجراءات المتخذة في حقهم.
وفي مرحلة التنفيذ، من المهم أن يعرف المواطن أن المفوض القضائي لا يتعسف في التنفيذ ولا يتجاوزه، بل يلتزم بما ورد في الحكم وبما يسمح به القانون. فقد يتوقع البعض تنفيذًا فوريًا أو نتائج سريعة، بينما الواقع أن التنفيذ يخضع لمساطر وضمانات تحمي جميع الأطراف. ودور المفوض القضائي هنا هو تطبيق الحكم في إطاره القانوني، لا أكثر ولا أقل.
من خلال هذه الأمثلة الواقعية، يتضح أن اللجوء إلى المفوض القضائي يكون أكثر نجاعة عندما يكون المواطن مدركًا لطبيعة دوره وحدود تدخله. فالمفوض القضائي ليس صانع نزاع ولا حلالًا لكل المشاكل، بل مهني قانوني يضع الواقع في إطاره الصحيح، ويمنح المواطن أداة قانونية سليمة للدفاع عن حقه أو حمايته أو تثبيته.
وفهم هذه النقاط قبل اللجوء إلى المفوض القضائي يجعل العلاقة معه أوضح، ويجعل الإجراء أدق، ويُجنّب الكثير من سوء الفهم، ويحوّل تدخل المفوض القضائي من مجرد رد فعل على مشكل، إلى خطوة قانونية واعية تُستعمل في وقتها وبشكلها الصحيح.
فهم مهنة المفوض القضائي لا يقتصر على معرفة اسمه أو مهامه، بل يتجاوز ذلك إلى إدراك موقعه الحقيقي داخل الحياة القانونية اليومية للمواطن. فالمفوض القضائي ليس مجرد منفّذ لإجراءات، ولا رمزًا للنزاع، بل هو حلقة أساسية تضمن أن ما يقع في الواقع لا يضيع بين الأقوال، وأن الحقوق لا تبقى معلّقة دون إثبات أو تنفيذ.
وعندما يلجأ المواطن إلى المفوض القضائي بوعي لطبيعة دوره وحدود تدخله، يتحول الإجراء من رد فعل متأخر إلى خطوة قانونية واعية، قد تحمي الحق قبل ضياعه، أو تضع حدًا للخلاف قبل أن يتفاقم، أو تمهّد لحل منظم وعادل إذا بلغ النزاع القضاء.
إن المفوض القضائي، في جوهر عمله، لا يقف مع طرف ضد آخر، بل يقف مع القانون والحقيقة كما هي. وبهذا المعنى، فإن التعامل معه لا ينبغي أن يكون بخوف أو سوء فهم، بل بفهم هادئ لوظيفته ودوره، باعتباره مهنيًا وُجد ليخدم العدالة ويحمي استقرار المعاملات ويصون الحقوق في إطار القانون.